تأسست في بريطانيا 2011
بريد الصحيفة - Muf2014s@gmail.com
كتاب مفاكرة

بين الخشوع والعدسة: عندما تتحول العبادة إلى مشهد مصور

بقلم| محمدالحارثي

في خضم أقدس الأماكن على وجه الأرض، حيث تلتقي الأرواح مع خالقها في لحظات الطواف والسعي حول الكعبة المشرفة، يتجلى معنى الإخلاص في العبادة، وهو شرط من شروط قبول العمل.

اقرأ المزيد من صحيفة مفاكرة

قال الله تعالى: “وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ”. ” الإخلاص”، هنا يعني أن توجه كل طاقات النفس وقلبها لله وحده، لا شريك له، بعيداً عن مظاهر الرياء والتفاخر، وهو أمر يتطلب مجاهدة مستمرة للنّفس؛ وللأسف أنّ هناك ظاهرة قد تبدو للوهلة الأولى مألوفة أو عادية، لكنها تتعارض مع مجاهدة النفس على الإخلاص، ومع المفهوم السامي للعبادة؛ إنها ظاهرة التصوير أثناء الطواف والسعي والعبادة.

بات بعض الحجاج والمعتمرين يحملون هواتفهم ليس فقط للتوثيق، بل لإظهار أدائهم لعبادتهم أمام الناس هذه الممارسات قد تبدو بريئة، لكنها تحمل في طياتها مخاطر أخلاقية وروحية كبيرة.

في اللحظة التي يرفع فيها المعتمر أو الحاج هاتفه لتوثيق دعائه لمن هم خلف الكاميرا، يخسر فضل الدعاء لأخيه بظهر الغيب، الدعاء الصادق الذي يرفعه المؤمن لأخيه دون أن يعلمه أحد، هو ما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقبله الله ويستجيبه وتأمن الملائكة له بالمثل، إذ قال: “دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل”.

إن كنت أيها المفتون بالتصوير تريد السمعة والرياء فقد ظلمت نفسك لإنّ الله سيفضحك؛ قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “من يُسَمِّع يُسَمِّعِ اللهُ به”.

إنّ الأمر لا يقف عند هذا فحسب، بل يمتد إلى فقدان الخشوع، والخشوع هو روح العبادة ولبها وفلاح صاحبها وسعادتهـ به تذل الجوارح وتخشع القلوب، ويتجلى الانكسار بين يدي الله.

لكن عندما ينشغل الحاج أو المعتمر بتصوير نفسه وهو يطوف أو يسعى، ينشغل قلبه بما هو أدنى، تنصرف نيته من ذكر الله والتقرب إليه، إلى متابعة الزوايا المناسبة للصورة، وضبط الفلاتر، وعدد المتابعين الذين سيرون الصورة بعد ذلك، وما كان من الممكن أن يكون لحظة صفاء وخشوع، يصبح مجرد مشهد مصطنع يحرم صاحبه من أعظم لذائذ العبادة، التي لا يعرفها إلا من كان الله ورسوله أحب إليه ممّا سواهما .

ولعل أعظم ما في هذه الظاهرة من تجاوزات هو إيذاء الآخرين وانتهاك خصوصيتهم؛ ففي مشاهد التصوير، يظهر في الخلفية رجال ونساء يؤدون عباداتهم في طاعة كاملة لله، لكنهم يواجهون دون علمهم عدسة تنقلهم للعالم الخارجي، هذا التصرف لا ينتهك حرمات البيت العتيق فقط، بل يتعارض أيضاً مع القوانين التي تجرم المساس بالحياة الخاصة، كما ورد في المادة الثالثة من نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية؛ التي تعاقب بالسجن والغرامة كل من أساء استخدام الهواتف المزودة بالكاميرا إذا أثبت المتضرر المادة الثالثة

أيها المفتون بالتصوير إنّ العبادة تتطلب تفرغاً كاملاً لله، وانصرافاً عن الدنيا وما فيها. وإن كنت مصرًا على توثيق رحلتك، فليكن ذلك بعد الانتهاء من العبادة، بعيداً عن إقحام الآخرين دون إذنهم في مشاهد لا تخصهم، ولتظل لحظات الطواف والسعي والطاعة بين العبد وربه في خشوع، خالصة لوجهه الكريم.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى