صحيفة سعودية تأسست في بريطانيا العام 2011إ
بريد الصحيفة - Muf2014s@gmail.com
مقالات

التعليم بين التجربة والمعرفة

روان طلاقي – جدة

في عصرٍ تتسارع فيه عجلة التغيير وتتداخل فيه متطلبات سوق العمل مع المهارات الحياتية، يصبح السؤال الأهم: كيف نؤهل أبناءنا ليكونوا أفراداً منتجين ومبدعين؟ هل يجب أن يكون الطريق الوحيد للتعليم هو المناهج الدراسية والاختبارات التي يجب علينا تجاوزها بالعلامات المرتفعة حتى تستقبلنا الجامعات بناءً على المعدل! والتي تفرض على الطالب مساراً محدداً، أم أنه من الممكن إعادة تشكيل هذا المسار بما يتناسب مع ميولهم وقدراتهم؟
إن مناقشة إعادة هيكلة النظام التعليمي لتشمل برامج تدريبية واكتشاف الميول خلال المرحلة الثانوية، ومنح البكالوريوس بناءً على الكفاءة والمعرفة لا على عدد السنوات الدراسية، هي خطوة نحو تحرير الأجيال القادمة من المسارات التقليدية، وإفساح المجال أمام عقولهم للإبداع والابتكار.
أولاً: التدريب في المرحلة الثانوية نافذة نحو اكتشاف الذات
في السنوات الأخيرة، باتت مسألة الميول المهنية واكتشاف القدرات الفردية أمراً محورياً في بناء مستقبل الفرد. إلا أن الأنظمة التعليمية الحالية تُلزم الطالب بدراسة مواد قد لا ترتبط بمساراته المستقبلية، ما يجعله محصوراً في دائرة تقليدية قد تقتل شغفه وتحد من قدراته.
ماذا لو كانت المرحلة الثانوية بمثابة مختبر تجريبي لاكتشاف ميول الطالب؟
يمكن تطبيق ذلك عبر برامج تدريبية متنوعة تشمل مجالات مختلفة كالكتابة، التصميم، البرمجة، الأعمال اليدوية، والتسويق الرقمي، بحيث يُتاح للطالب التجربة قبل أن يقرر مساره الأكاديمي.
هذه التجارب لا تساهم فقط في تنمية المهارات، بل تُعمق من إدراك الطالب لميوله، وتُكسبه ثقة بالنفس ومعرفة حقيقية بما يناسبه قبل اتخاذ قرارات مصيرية.
ثانياً: البكالوريوس ليس بعدد السنوات بل بمستوى المعرفة
منذ عقود ونحن نعيش تحت قناعة أن البكالوريوس يجب أن يُمنح بعد أربع سنوات من الدراسة الأكاديمية التقليدية. لكن في عالم يعتمد على السرعة والكفاءة، لا يكون المعيار هو المعرفة المكتسبة والمهارات العملية وليس عدد السنوات؟
يمكن تطبيق هذا النموذج من خلال نظام تعليم إلكتروني يُقدّم برامج مكثفة، تُتيح للطالب دراسة المقررات وفق سرعته واستيعابه. فمن يمتلك القدرة على استيعاب المعلومات بسرعة وإثبات كفاءته في فترة وجيزة، يُمنح الشهادة بناءً على ذلك، لا بناءً على عدد الساعات الدراسية.
هذا النظام يشجع على تطوير عقلية الابتكار بدلاً من الاعتماد على الحفظ والتلقين. فالطالب المبدع والذكي، سيجد الفرصة أمامه ليتقدم بمعدل أسرع، فيما يتمكن الطالب الذي يحتاج إلى وقت أطول من إعادة دراسة المواد وفق جدول يناسب قدراته.
ثالثاً: المكتبة الإلكترونية: بوابة نحو التعلم الممتع والهادف لطالما كانت المكتبات شغفاً لكل طالب طموح نحو التميز. لكن في عصر التكنولوجيا الرقمية، لم تعد المكتبة محصورة بين جدران أربعة، بل أصبحت نافذة مفتوحة على العالم، متاحة في كل زمان ومكان.
إن تحويل المكتبات الإلكترونية إلى أدوات تفاعلية أكثر جاذبية سيُساهم في بناء ثقافة القراءة والتعلم الذاتي. بدلاً من الاكتفاء بالكتب التقليدية، يمكن إضافة محتوى تفاعلي كالدورات المصورة، والأنشطة التفاعلية.
يمكن للطالب الذي يرغب في دخول مجال الإعلام أن يجد كتباً في الصحافة، وفيديوهات تعليمية حول إنتاج المحتوى الرقمي، ومسابقات تحفيزية لتطبيق ما تعلمه. هذه التجارب الرقمية تجعل التعلم أكثر متعة وتفاعلاً، مما يعزز من ارتباط الطالب بالمعرفة.
رابعاً: تعزيز المهارات الناعمة: ركيزة النجاح في عالم متغير حيث أنه في ظل التغيرات السريعة التي يشهدها سوق العمل، لم تعد المهارات الأكاديمية وحدها كافية للنجاح. بل أصبحت المهارات الناعمة مثل التواصل الفعّال، العمل الجماعي، التفكير النقدي، والذكاء العاطفي أساسية لتميّز الفرد.
لذلك، يجب إدماج برامج تدريبية لتطوير هذه المهارات ضمن المناهج الدراسية. فالتدريب على مهارات العرض والإلقاء، وإدارة الوقت، والتفاوض، سيُساعد الطلاب على بناء شخصيات قوية قادرة على التكيف مع بيئات العمل المختلفة.
كما يمكن تنظيم ورش عمل حول القيادة والعمل ضمن فرق، تُتيح للطلاب تجربة مواقف عملية تُنمي قدراتهم وتزيد من ثقتهم بأنفسهم.
رابعا : الأمهات قديماً: مدرسة الحياة الأولى
في الماضي، كانت الأمهات بمثابة المدارس الأولى لأبنائهن. رغم أن كثيرات منهن لم ينلن شهادات عليا، إلا أنهن استطعن أن يزرعن في أبنائهن قيم الطموح والثقافة والاعتماد على الذات.
كانت الأم قديماً تجسد نموذجاً عملياً للقيادة والتوجيه. فهي المعلمة، والمرشدة، والقدوة. علمتنا أمهاتنا أن النجاح ليس محصوراً بالشهادات، بل بالخبرة والمعرفة، وأن الثقافة ليست حكراً على المناهج الأكاديمية بل تمتد لتشمل القراءة المستمرة، والتجارب الحياتية، والتعلم من الآخرين.
عندما يتحول التعليم إلى رحلة استكشاف ذاتي وتدريب عملي، وتحويل مفهوم البكالوريوس إلى معيار للكفاءة بدلاً من عدد السنوات، وتطوير المكتبات الإلكترونية لتكون أكثر جذباً وتفاعلاً، وتعزيز المهارات الناعمة كجزء من المناهج، كلها خطوات نحو بناء جيل أكثر وعياً وابتكاراً.
ليس الهدف هو إلغاء الأنظمة التقليدية، بل تطويرها لتتواكب مع احتياجات العصر. فالعلم لم يعد مجرد شهادة تُعلق على الحائط، بل هو تجارب وخبرات ومعرفة نعيشها ونتفاعل معها يومياً.

هكذا نصنع جيلاً لا يحفظ المعلومات ليجتاز الامتحانات، بل يكتسب المهارات ليبدع ويبتكر ويبني مستقبله بإرادة وثقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى