هيئة التحدي والاستجابة
تجلّى للعيان بوضوح الدور الحاسم لمفهوم “التحدي والاستجابة” خلال أزمة جائحة كورونا، التي ألقت بظلالها الثقيلة على العالم بأسره، وأرغمت الدول على اتخاذ تدابير احترازية غير مسبوقة. لم تكن هذه الأزمة مجرد اختبار للأنظمة الصحية فحسب، بل كشفت عن هشاشة سلاسل الإمداد العالمية، ومدى اعتماد الدول على بعضها في إنتاج وتوريد الاحتياجات الأساسية، من الغذاء إلى الأدوية، مرورًا بالأدوات الطبية والسلع الحيوية.
ومع اشتداد الأزمة وتوقف معظم وسائط النقل والشحن، بدأت تلوح في الأفق ملامح شحٍ عالمي. الدول المنتجة باتت مترددة في تصدير منتجاتها خشية أن تواجه عجزًا داخليًا، بينما الدول المستهلكة شعرت بخطر الاعتماد المطلق على الخارج. ومن هنا ظهرت الحاجة المُلحّة لإعادة صياغة المفاهيم الاستراتيجية للدولة، بحيث تضمن تأمين احتياجاتها الحيوية من خلال الاكتفاء الذاتي أو تنويع مصادر الاستيراد وتعزيز المخزون الاستراتيجي.
وإذا كانت أزمة كورونا قد اندلعت في وقت يسوده السلم العالمي نسبيًا، فما الذي يمكن توقعه لو كانت الأزمة ناتجة عن حرب عالمية أو إقليمية شاملة؟ ماذا لو كانت الفيروسات المستخدمة جزءًا من حرب بيولوجية؟ هذه الاحتمالات، رغم سوداويتها، لم تعد من قبيل الخيال العلمي، بل أصبحت سيناريوهات محتملة في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية، وتنامي الحديث عن أسلحة الجيل القادم، ومنها الأسلحة البيولوجية والرقمية.
ومن هنا، تبرز الحاجة إلى إنشاء “هيئة التحدي والاستجابة” ككيان وطني استراتيجي، يعنى برصد التحديات المحتملة – سواء كانت صحية أو اقتصادية أو أمنية – ووضع الخطط الاستباقية لمواجهتها، من خلال:
1 بناء منظومة اكتفاء ذاتي ذكي في الغذاء والدواء والطاقة، وتعزيز الصناعة الوطنية، لا سيما الصناعات الدقيقة والتقنية.
2.رسم سياسات تجارية مرنة تضمن تنويع الشركاء التجاريين، وبناء جسور التعاون مع دول تمتلك موارد نادرة أو تقنيات حيوية، بما يحدّ من الوقوع تحت سطوة طرفٍ واحد.
3. تحديد ما يلائم التخزين الاستراتيجي وفق معايير علمية دقيقة تراعي طبيعة كل منتج ومخاطر انقطاعه، وتحديث المخزون دوريًا.
4.بني سياسة إعلامية متوازنة ترفع منسوب الوعي العام، وتغرس ثقافة الترشيد والتكافل والتعامل المسؤول مع الأزمات بعيدًا عن الهلع أو التهافت الاستهلاكي.
5. تحفيز القطاع الخاص على الاستثمار في المجالات الحيوية ذات الطابع الاستراتيجي، من خلال الحوافز والضمانات، وتفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
6.بناء برامج تدريب وتأهيل للأزمات تشمل سيناريوهات واقعية، لتعزيز الجاهزية المؤسسية والمجتمعية لأي طارئ.
وما يبعث على الاطمئنان أن المملكة العربية السعودية، بقيادة خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد، قد أحرزت تقدمًا ملحوظًا على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والتنموية. رؤية المملكة 2030 وضعت أساسًا صلبًا للتحول الوطني، معزّزًا بمبادرات نوعية في مجال الأمن الغذائي، والطاقة المتجددة، والصناعة المحلية، والتحول الرقمي.
كما أن المتغيرات الدولية خلال عامي 2024 و2025، بما في ذلك أزمات الطاقة، والتقلبات الاقتصادية، والحروب الإقليمية، أكدت مجددًا صواب توجه المملكة نحو تعزيز السيادة الاقتصادية وتوطين الصناعات الحيوية. اليوم، المملكة لا تكتفي بتأمين احتياجاتها فحسب، بل تسعى لتكون مصدر أمن واستقرار اقتصادي إقليمي.
ولعلّ أبرز ما نملكه هو الطاقة – هذه الورقة الرابحة التي لا تزال محورًا حيويًا في المعادلات الدولية، بالإضافة إلى مواردنا الطبيعية، وسواعدنا البشرية المؤهلة، وجغرافيتنا الواسعة، ومكانتنا الدينية والسياسية.
وعليه، فإن هيئة التحدي والاستجابة ستكون استجابة عملية لحتمية التأهب والجهوزية في عالم تتسارع فيه التغيرات وتتشابك فيه الأزمات. هي هيئة تمثل يقظة الدولة واستباقها، وتُترجم الرؤية إلى واقع ملموس يحمي الوطن ويُعزز استقراره.
حفظ الله المملكة، وأدام أمنها، وبارك في قيادتها وشعبها، وجعلها أنموذجًا في الحكمة والاقتدار والتخطيط السليم.