رجل من سلالة المعنى… يوسف دمنهوري كما لا تعرفه الأضواء
في زوايا الزمن المهني الهادئ، وفي طيّات الصحف التي غابت أوراقها لكن بقي حبرها، يظهر اسم يوسف دمنهوري كأحد أولئك الذين لم يكتبوا لأنفسهم، بل كتبوا من أجل أن تظل المهنة واقفة على قدميها، لا تنحني ولا تتبدّل.
ولد في مكة المكرمة عام 1934م، المدينة التي وهبته النَفَس الطويل، والروح المتأملة، واللغة التي لا تميل إلى الزخرف، بل تمضي مباشرة نحو الجوهر. كان من الجيل الذي لم يرَ الصحافة مهنةً لكسب الحضور، بل مسؤولية لقول ما يجب أن يُقال، حتى لو لم يُصفّق أحد.
في زمن مبكر من عمر الصحافة السعودية، حين كانت تتشكل بين الورق والوعي، بدأ دمنهوري مسيرته، وتدرّج في جريدة الندوة حتى أصبح رئيس تحريرها، لا بسلطة المنصب، بل بثقة الحبر ونقاء العبارة.
وفي مقتبل وعيه، ارتبط بالكتاب والقرطاس والمحبرة كما يرتبط المتصوف بخلوته، إذ كانت فترة المراهقة عنده بوابةً لحضارة الحرف، وفترة الشبيبة معبرًا إلى صقل الكلمة وتحقيق وعي الكتابة دون تكرار أو اجترار. لم يكن قارئًا فقط، بل كاتبًا متجددًا، ومثقفًا التقط هموم رجل الشارع ودوّنها بلغة رصينة تحمل حسًا إنسانيًا صادقًا.
حين بدأت الدولة تأسيس التلفزيون السعودي، اختير ضمن النواة الأولى في وزارة الإعلام، وكان من أولئك الذين ينظرون إلى الإعلام باعتباره مشروعًا وطنيًا لا مجرد وظيفة.
وقد سلك درب المقالة الرصينة عبر مجلة قريش، حين كانت الكلمة تُكتب كأنها صلاة، وهناك وجد في الكتابة طمأنينة وراحة لا تمنحها المنابر العالية. كان يعيد تعريف القلم لا من خلال ما يكتبه، بل من خلال ما لا يسمح له بأن يُكتب.
لم يكن أسير الثنائيات الصاخبة في العمل الصحفي، بل آمن بأن الصحافة ليست ساحة جدل عقيم، بل صناعة وعي، وصياغة سرد محترم للواقع. حذّر مبكرًا من الأفكار المنفلتة التي تُسيء للعقل قبل أن تُسيء للمجتمع، وكان صوته واضحًا في ذلك، رغم بساطته.
وفي حياته الخاصة، كان زوجًا حنونًا وأبًا نبيلًا. جمعت بينه وبين زوجته “مريم” علاقة شراكة إنسانية متينة، تشاركًا معًا تفاصيل الحياة، حتى في المرض، وحتى في الرحيل. أنجبا أربعة أبناء هم: مازن، رامي، مي، وميرامار، وكان بين أحفاده دفء آخر لا يظهر إلا حين يُذكر اسمه في مجالسهم بمحبة وامتنان.
ولم يكن وداعه عاديًا. لقد غادر ومعه جيل كامل من المعنى، بصماته لا تزال في قلوب من عرفوه، وفي عيون من قرأوا له، وفي ذاكرة مهنة ما زالت تفتقد أمثاله