صحيفة سعودية تأسست في بريطانيا العام 2011إ
بريد الصحيفة - Muf2014s@gmail.com
مقالات

“الإصلاح بين ذوي القربى فريضة القلوب الكبيرة”

الحمدُ للهِ الذي أمرَ بالإصلاح، ومدحَ أهله، وجعل الصلحَ خيرًا، والصلاةُ والسلامُ على من قال: “خيرُهما الذي يبدأُ بالسلام”، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
يا صاحِبَ القلبِ الذي أضنَتْهُ الخلافات،أما آنَ لليلِ التباعدِ أن ينجلي؟ أما آنَ لِنسيم المودّةِ أن يهب فيطهّر ما علق في الأنفاس من غُبارِ الجفاء؟
إن أيّ تجمعٍ بشري،مهما سمت روابطه أو كثرت فضائله،لا يَسلَم من التباين في الرؤى، والتفاوت في الطباع،والتباعد أحيانًا في الفهم والتقدير.
ولقد قُدِّر على الإنسان أن يختلف،كما قُدِّر عليه أن يتآلف، وتبقى النفوس ما دامت بشرًا، تحملُ فيها النقص والهوى، والغفلة والتسرع.
وما كانت الخلافات لتُفسد المودّة،لولا أنها تُركت بغير علاج،وتُرك فيها الجرح مفتوحًا دون بلسم،حتى صار بعض الناس لا يذكر إلا ما يَفصله،ولا يتأمل إلا ما يُقصيه.
لكن…إذا كان الناس غرباء عن بعضهم،فالصفح عنهم فضل.
أما إذا كانوا ذوي قربى،فإن الصفح عنهم فرض.
لأن الرحم إذا تباعدت،تَشقّق معها أصلُ الاجتماع،واختلتْ عروةُ المحبة،وذبلتْ جذورُ الصلة، ولا دواء لذلك إلا بالإصلاح.
وهنا،يأتي قول الله تعالى:
{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}
كلمة، وإن بدت قصيرة،لكنها تكفي لتكون نبراسًا في درب المُختلفين.لم يقل ربّنا إن الصلح أفضل، أو أيسر،بل قال: خير.والخيرُ في القرآن ليس مجرد أفضلية،بل هو الخير الكامل،الجامع لكل بركة، الذي يُعيد القلوب إلى طمأنينتها، والمجالس إلى سكينتها.
ويزيد المعنى وضوحًا في قوله تعالى:
{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}
أغلب كلام الناس لا ثمرة فيه، إلا ما كان للخير خالصًا:صدقة، أو معروف، أو إصلاح.
فكيف إذا كان هذا الإصلاح بين إخوة الرحم،وأبناء الجدّ الواحد،وذوي النسب والعِشرة؟
هنا، لا يكون الإصلاح خلقًا فحسب،بل يصبح حقًا واجبًا، وصِيانة لنعمة الله الكبرى فينا: العائلة.
وإذا أردنا للخير أن يدوم، وللصلة أن تُثمر، فلابد من لجنة إصلاح تُنتخَب من خيار القوم:
من رزقهم الله الحِلم إذا غضب الناس،والرفق حين يشتد النزاع،والبصيرة التي تميّز بين الموقف والنيّة، وبين الخطأ والمُخطيء.
لا يحملون في قلوبهم إلا همّ التوفيق،ولا في أفواههم إلا لسان العدل.
يسيرون إلى المختلفين كما يسير الطبيب إلى مريضه،لا ليفضحه،بل ليُبرّئه.
هم البلسم حين تعيا الكلمات، وهم الجسر حين تنقطع الطرق، وهم اليد التي تجمع،لا التي تُبعد.
وهنا،لا بد من نداء القلب للمُتخاصمين أنفسهم…
فيا من وقعت بينك وبين أخيك جفوة، أو باعدت بينكما لحظةُ غضب…
أما آن للقلوب أن تعود إلى أصلها؟ أما آن للودّ أن يُبعث من جديد؟
تذكّر قول نبيّ الرحمة ﷺ: “وخيرُهما الذي يبدأُ بالسلام.”
لم يقل أكبرهما أو أصغرهما، ولم يقل انتظر المخطئ ليعتذر، بل قال:خيرُهما.
فالخيرية في المبادرة،في من يكسِرُ جدار الصمت،ويمدّ يد الصفح،ويقول:“سلامٌ عليكم”.
هي كلمة، لكنها تهزّ أقلام الملائكة فرحًا،وتفتح أبواب السماء.
ألا تحب أن تكون الموصوف بالخيرية من بينكما عند الناس، بل عند الله؟
أن يُكتب في صحيفتك: “أصلح فلان ما أفسده الشيطان،وبادر حين انتظر الجميع”، وأن تكون ممن عمّر البيوت بكلمة،ولم يهدمها بكِبر.
ولْتعلم ـ رعاك الله ـ أن البدء بالسلام لا يُنقص من قدرك،بل يرفعك،ولا يضعف موقفك،بل يُقوّيه،ولا يُسقط هيبتك،بل يُثبّت محبة الناس لك.
فمن أطفأ نارًا بكلمة،أو أنهى خصامًا بخطوة،أو طيّب خاطرًا بنظرة…كان عند الله من المحسنين.
فلا تتردد… وخذ الخطوة الأولى.
وابدأ بها كما يبدأ الفجر ليلًا ثقيلاً، فيملؤه نورًا ورحمة.
ويا للعجب…
نُعرف بالإصلاح بين الأباعد، ولا نُطيق ساعةً نُصلح فيها ذات البين في خلاف بيننا أنفسنا!
نُجامل الآخرين في الأفراح، ونُعزّي في الأتراح، ثم نقسو حين تنادي الدماء: “يا قومي أصلحوا بيننا”.
فيا ابن العم، ويا ابن الخال، ويا كل ذي رحم،
اعلم أن الشقاق حين يطول، يُورث الوحشة،وأن التلاقي على خيرٍ يُورث البركة.
وأنّ أول خطوة في طريق الإصلاح، لا تُقاس بثمن، لكنها تُوزن عند الله بميزان الصدق والإحسان.
فادعوا إلى الإصلاح، وسيروا فيه كما يسير أهل الخير إلى الصلاة… طهارة في القلب، وصدق في النية، ورحمة في القول.
وتذكّروا قول الله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}
فهو أمرٌ،لا يُستحب فقط، بل يُفرض،ولا يُطلب تأدبًا، بل يُرجى تقرّبًا.
ومن أطاع فيه، فله من الله أجرٌ عظيم، ومن الناس حُبٌّ لا يزول، ومن الذكرى أثرٌ لا يُنسى.
فليكن في كل بيت، وفي كل عائلة،لسانٌ يدعو إلى الخير، وقلبٌ يسعى للصلح، ووجوهٌ لا تُحبّ إلا الألفة.
فمن أصلح بين القريب، أصلح الله له شأنه كله، وبارك له في داره، وأكرمه بمحبة في الأرض والسماء.
والله هو الموفّق،وهو الذي يُقرّب القلوب إذا صَفَت، ويجمع النفوس إذا صدقت، وهو أرحم الراحمين.
ولست بهذا أزعم أني سليم من الخطأ، كما أني لا أتحدث عن واقعة بعينها، بل أحتسب نشرها في كل عائلة عرفتها أم لم أشرف بذلك.
قال تعالى: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ}.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى