مدينة أفلاطون وصديقي شوعي!
بقلم: عيسى المزمومي
في عالمٍ يسوده الغرابة، حيث تتداخل الحقائق مع الأوهام، تبرز مدينة أفلاطون كرمزٍ للمثالية التي ينشدها الإنسان منذ الأزل. إنها الحلم الذي يراود الفلاسفة والمفكرين، المدينة التي يسودها العدل ويغيب عنها الظلم، حيث تُقام القيم على أساس الحق لا القوة، ويُقاس الإنسان بما يقدّم، لا بما يملك!
لكن، ماذا لو كان هناك شخص مثل صديقي شوعي؟ رجل يمثل النقيض تمامًا لتلك المدينة الفاضلة؟ رجلٌ عاش عمره بعيدًا عن المثال، متقلبًا بين أطياف المصلحة والأنانية، متشبثًا بقناع الليبرالية، وهو في داخله لا يؤمن إلا بمنطق الغلبة والبقاء للأقوى.
عندما كنت صغيرًا، قال لي أحد الحكماء: “الخطأ في بطن الصواب”. لم أفهمها حينها، لكنها أصبحت مع الزمن حقيقة أعيشها. شوعي كان تجسيدًا لهذا التناقض. عاش في عالمٍ تُفرض فيه القيم بالقوة، لا بالمنطق، وتُبنى فيه العلاقات على الواسطة، لا على الكفاءة. كان يظن أن استغلال القوي للضعيف أمرٌ طبيعي، بل ضرورة تبررها الحياة ذاتها، وكان يرى أن اللين ضعف، والرحمة عائق أمام تحقيق الأهداف.
لقد كان يرى الحياة صراعًا، لا تجربة. معادلة من طرفين: غالب ومغلوب. لا مكان فيها للعدل، ولا موضع فيها للتسامح. لكنه، كما يقول المثل: “تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن”. فبعد وعكة صحية ألمت به، بدأ يدرك هشاشة هذا التصور. بدأت تساؤلاته تتسلل إلى أعماقه: ما الغاية من كل هذا؟ هل خُلقنا لنكون جلادين لبعضنا البعض؟!
في لحظة صدق مع الذات، عاد شوعي إلى القرآن. وهناك وجد الأجوبة التي غابت عنه طويلًا. اكتشف أن الله خلق الإنسان لعبادته، وأن العبادة ليست مجرد شعائر، بل أخلاق وسلوك وعدالة ورحمة. أدرك أن الظلم، مهما طال، لا يدوم، وأن التسلط على البشر لا يُنتج سوى الفراغ والندم.
وهكذا، بدأ التحول. بدأ شوعي يعيد ترتيب قيمه، ويهدم ما بناه من مفاهيم مغلوطة. صار يتأمل في حاله، ويسائل ضميره، وتبدّل منطقه من “أنا أولًا” إلى “نحن معًا”. تغيّر، نعم تغيّر، وأثبت أن الإنسان قادر على مراجعة ذاته، وأن الألم ليس نهاية الطريق، بل قد يكون بدايته.
لقد علّمتني تجربة شوعي أن المدينة الفاضلة ليست مجرد خيال أفلاطوني، بل فكرة يجب أن نسعى لتجسيدها قدر المستطاع. وأن التغيير يبدأ من داخل الفرد، لا من خارج المجتمع. مدينة أفلاطون ليست بعيدة، إذا اخترنا أن نعيش قيمها: العدل، والكرامة، والمساواة، والتراحم.
فلنجعل من هذه المدينة غايتنا، ومن قيمها نورًا يضيء طريقنا. ولنعِ أن لكل “شوعي” في حياتنا فرصة للتحول، إذا وجد من يدلّه على الطريق!