ما وراء الهدوء.. حكايات صامتة
قبل فترة، شاهدت بودكاست للدكتور محمد الخالدي تحدّث فيه عن خطورة إصدار الأحكام المتسرّعة على الآخرين، وقد لفت انتباهي قوله العميق:
“من القناعات التي تورث الحكمة، أن تؤجل حكمك، لا أن تلغيه فقط.”
هذه العبارة فتحت بابًا للتأمل في الطريقة التي نتعامل بها مع الناس. فالتسرع في الحكم لا يظلم الآخرين فحسب، بل يرهقنا نحن أيضًا، إذ يدخل عقولنا في دائرة الانفعال بدل التأمل والإنصاف.
كم من مرة كوّنا رأيًا من نظرة عابرة أو تصرف لحظي، ثم اكتشفنا لاحقًا أن الحقيقة كانت مختلفة تمامًا؟
الأحكام المسبقة ليست مجرد سوء فهم، بل قد تكون ظلمًا خفيًا، لأنها تتجاهل ما لا نراه من ظروف وتجارب داخلية. ولهذا ينصح الخبراء بأن نصف الموقف بموضوعية بدل إصدار الأحكام، حتى لا نثقل أرواحنا ولا نخلط بين الواقع وتصوراتنا.
كثيرًا ما نقع أسرى الانطباعات الأولى، فنحكم بظاهر الأمور ونبني تصوراتنا على مشهد ناقص. نرى شخصًا قليل الكلام فنظنه غير مهتم، أو آخر يتعامل بهدوء مع الأزمات فنحسبه بارد المشاعر، بينما في العمق تختبئ تفاصيل لا ندركها.
فالهدوء قد يكون ثمرة معركة داخلية طويلة، والصمت لغة من لا يجد من يصغي إليه، والابتسامة قد تخفي خلفها جراحًا عميقة.
وقد لخّص أفلاطون هذا المعنى بقوله:
“لا ينبغي الحكم على الإنسان من مجرد مظهره الخارجي.”
وأكد رالف والدو إمرسون:
“لا تحكم على الآخرين من أول لحظة، فكل إنسان يحمل عالماً داخلياً كاملاً.”
إن إطلاق الأحكام لا يقيّد الآخرين فقط، بل يستهلك طاقتنا نحن أيضًا، إذ ننشغل بتصنيفهم بدلًا من توجيه جهدنا لتطوير وعينا ونماء ذواتنا.
وقد قال جون لوك:
“أفكارنا المسبقة غالبًا ما تكون سجنًا لأنفسنا قبل الآخرين.”
وهنا تتجلى الحكمة: أن التريّث قبل إصدار الأحكام ليس فقط احترامًا للآخرين، بل هو سمو للنفس ورقي في التفكير.
فخلف كل هدوء حكاية، وخلف كل صمت صوت لم يُسمع بعد… وربما أجمل ما يمكن أن نقدمه للآخر هو الإنصات بتفهّم، لا استبقية الحكم …..