بين الفرص والرحيل.. تُحسم الرهانات
في زحام العلاقات، كثيرًا ما نمنح الفرص بدافع المحبة، ونُصلح ما يمكن إصلاحه، ونمهل القلوب علّها تعي قيمتنا، لا ضعفًا منا، بل إيمانًا بأن الروابط الصادقة تستحق الصبر. غير أن البعض يخلط بين الصبر والضمان، وبين الحضور والاعتياد، فيتمادى غير مدركٍ أن لكل قلب طاقته، ولكل نفس كرامتها وحدودها.
في أحد اللقاءات، وُجّه إلى أحد الضيوف سؤال عميق:
“من الذي يستحق الفرصة الثانية؟”
فأجاب بحكمة لامست القلوب:
“هو الذي يُعطيك فرصة ثانية، من إذا فقدتَ كل شيء سيبقى معك، من يحبك لأجل روحك، لا لأجل الكماليات أو النور الذي صنعتَه لنفسك، من لم يُخطئ بدافع حقد أو سوء نية، بل من أخطأ بحسن نية دون قصد.”
هذه الكلمات تختصر مبدأً إنسانيًا نبيلًا: ليست كل الأخطاء متشابهة، ولا كل الناس يستحقون المساحة نفسها من التسامح. نحن نُعطي الفرص لمن نحب، لأننا نؤمن بقيمة ما بُني، ونخشى أن نخسر قلوبًا شاركتنا الطريق.
لكن المؤلم أن هناك من يظن أن صبرنا لا ينفد، وأن العطاء بلا حدود، فيتمادى ناسيًا أن الفرص ليست أبدية، وأن الإهمال المتكرر يُطفئ بريق العلاقة ويحوّل الثقة إلى جدار صامت من الجفاء.
الفرص ليست ضعفًا، بل اختبارًا لنقاء النوايا. غير أن البعض يتعامل معها كرهانٍ على بقائنا، فيخسرون مرتين: الفرصة، والقلب الذي منحهم إياها بصدق.
كما قال جبران خليل جبران:
“من لا يعرف قيمة حضورك، علّمه معنى غيابك.”
فالصبر لا يعني البقاء إلى الأبد، بل منح مساحة للتغيير. فإن لم يحدث التغيير، يصبح الابتعاد صونًا للكرامة لا قسوة. الفرص هدايا ثمينة، لا تُهدى مرتين لمن لا يُقدّرها.
ويقول إبراهيم الفقي:
“لا تعطي الفرص لمن لا يُقدّر وجودك، فبعض الفرص إن أُهدرت لا تُستعاد.”
وكما جاء في المثل العربي:
“من أَمِنَ العقوبة أساء الأدب.”
كثرة الفرص إن أسيء فهمها تُغري بالتمادي بدل أن توقظ الضمائر. لذا علينا أن نمنح الفرص بحكمة، لا بعاطفة عمياء، وأن ندرك أن من يستحق البقاء لا يختبر حدود صبرنا مرارًا، بل يصونها منذ البداية.
وحين تنفد الفرص، لا يبقى سوى الرحيل الصامت… ذاك الرحيل الذي يُوقظ ما عجزت الكلمات .. فالبعض يُدرك قيمتك في الوقت المناسب، والبعض الآخر لا ينتبه إلا بعد فوات الأوان. والحكمة أن تعرف متى تمنح الفرصة، ومتى تحفظ كرامتك بصمتك… فليست كل الرهانات رابحة، ولا كل القلوب تستحق العودة ..