الانتقاء.. بصمة النضج ..

في عالمٍ مزدحمٍ بالوجوه، والأصوات، والعلاقات المتسارعة، يصبح الانتقاء فناً من أرقى فنون الحياة، لا يُتقنه إلا من بلغ مرحلة من الوعي تجعله يدرك أن العشوائية في الاختيار تُهدر الطاقة، وتستنزف الروح، وتشوّه البصيرة.
أن تنتقي لا يعني أن تتكبّر أو تنعزل، بل أن تُمارس الاحترام لذاتك، بأن لا تسمح لكل شيء أن يعبر بوابتك الداخلية دون إذنٍ …
يقول الكاتب الفرنسي أناتول فرانس: “تُعرف قيمة الإنسان بما يختار، لا بما يُمنح.”
فالاختيار الواعي لا يصنعه الحظ، بل تصنعه التجربة، والتأمل، والقدرة على قول “لا” لكل ما لا يشبهك…
فالانتقاء ليس رفضًا، بل حفاظًا؛ ليس قسوة، بل وعيًا بأنك تستحق
ما يرتقي بك، لا ما يُنقصك…
كم من أرواحٍ تعثّرت لأنها لم تُحسن الاختيار، وكم من قلوبٍ أنهكتها المجاملات، لأنها لم تعرف متى تضع حدودها.
يقول جلال الدين الرومي: “ابتعد عمّن لا يُشبهك، فالقرب من المختلفين يُطفئ النور الذي فيك.”
وفي هذا القول اختصارٌ لمعنى الانتقاء: أن تُبقي في حياتك من يضيف لا من يستهلك.
كما قال الحكماء (وفر بريق سيفك لمعركة تستحق ) لأن الانخراط في كل نقاشٍ أو خلافٍ يُفقدك سلامك…
انتقِ حتى خصومك، فالصراع مع من لا يستحقك يُنقص من قامتك، بينما الارتقاء بالصمت يزيدك هيبة وسموّاً…
وفي علاقاتك، لا تجعل قلبك ميدانًا للتجارب، ولا صدرك مأوى لكلّ عابر…
انتقِ من يجعلك ترى الحياة بنقاء، لا من يُثقل روحك بعبثه..
انتقِ ما يُغذيك فكراً وروحًا، لأنّ العمر لا يتّسع لتجارب عشوائية، ولا لطرقٍ بلا وجهة…
وحين تتقن فنّ الانتقاء، تصبح خطواتك أثقل، وقراراتك أنقى، وسلامك الداخلي أعظم مكافأة .. فكلّ ما يشبهك سيجد طريقه إليك دون عناء، فقط حين تُدرك أنك لست في سباقٍ لإرضاء أحد، بل في رحلةٍ لتقدير نفسك…
وفي النهاية، تذكّر أن الانتقاء لا يبدأ من الخارج، بل من الداخل .. ابدأ بنفسك أولًا، انتقِ أفكارك، مشاعرك، وحديثك مع ذاتك…فمن يُحسن الاختيار في داخله، لن يضلّ الطريق خارجه…كن انتقائيًّا… لأن من يعرف قيمته، لا يرضى إلا بما يليق به…





