مقالات
ما بين الاقتلاع والإزهار… سرّ التحوّل

استوقفتني مقولة لشمس الدين التبريزي:
“أحيانًا يقتلع الله جذورك من أرضٍ اعتدتها، ليزرعك في تربةٍ أنقى. فتظن أنك فقدت، بينما الحقيقة أنك بدأت تنبت من جديد.”
حين قرأتها، استرجعتُ مواقف كثيرة مرّت بي، وتذكّرتُ كيف أن كثيرًا من التغيّرات التي ظننتها خسارة، كانت في حقيقتها بدايةً لوعيٍ أعمق ونورٍ جديد.
كم مرة أبعدنا الله عن مكانٍ أو أشخاصٍ أو عملٍ كنا نتمسّك بهم بكل ما فينا، فشعرنا بالوجع والضياع، ثم اكتشفنا لاحقًا أن ذلك الإبعاد كان رحمةً مخفيّة، وحمايةً من شيءٍ لم نكن نراه.
قال الله تعالى:
“وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.” [البقرة: 216]
كل اقتلاعٍ أو تبدّلٍ يمرّ بنا ليس عبثًا؛ فالله يهيئنا لحكمةٍ لا نراها إلا بعد حين.
الأزمات تمزّق الأقنعة، وتكشف الوجوه الحقيقية، وتكون غربالًا يميّز بين الصادق والزائف، وبين من كان معنا حقًّا ومن كان ظلًّا مؤقتًا.
وقد قال ابن عطاء الله السكندري:
“ربما منعك فأعطاك، وربما أعطاك فمنعك.”
وصدق جلال الدين الرومي حين قال:
“الجرح هو المكان الذي يدخل منه النور إلى روحك.”
فالاقتلاع ليس نهاية، بل بداية لنموٍّ مختلف. هو دعوة لأن ننضج، ونرتقي، ونرى أنفسنا بوضوح.
وأقوى نسخةٍ منا تولد بعد أن تصقلنا المواقف وتطهّرنا التجارب. نراها حين نتأمل صورنا القديمة، فنبتسم لذلك الوجه البريء الذي كنا عليه، وندرك كم غيّرتنا الحياة، وكم اشتدت جذورنا بعد كل عاصفة.
تمرّ بنا أيام تُرهق الأرواح وتبهت فيها الألوان، حتى نظن أن الأحلام ماتت، غير مدركين أن الله يخبّئ لنا بين طيّات الانكسار بذور حياةٍ جديدة تنتظر موسمها لتزهر.
فالذبول لا يعني الفناء، بل هو سكون مؤقّت تنضج فيه الجذور بعيدًا عن العيون.
حتى الزهر لا يزهر في كل الفصول، لكنه لا ينسى موعد ربيعه.
“سيمرّ هذا أيضًا.”
عبارة تختصر فلسفة الحياة، وتذكّرنا أن لا شيء يبقى على حاله؛ لا الحزن ولا الخذلان، فكل مرٍّ سيمرّ حين يأذن الله.
فلا تخشَ اقتلاع الله لك من أرضٍ ألفتها، فربما كانت تربتها لم تعد صالحةً لنموّك.
وثق أن الله لا يزرع إلا في أرضٍ تُثمر، وأن ما ذبل فيك سيزهر حين يُمسّه نور الله.
قال تعالى:
“وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.” [لقمان: 34]
تذكيرٌ بأن الغيب كله بيد الله، وأن ما يجهله قلبك اليوم قد يكون غدًا أجمل مما تتمنى.
ما أتعبك مروره كان عبورًا لا بدّ منه، وما ظننته نهايةً كان بابًا لبداية أجمل.
فاصبر على الاقتلاع، وثق أن ما كُتب لك سينبت في وقته ومكانه الصحيح.
وستعود الأحلام الذابلة لتزهر من جديد…





