بين الفهم والقبول .. يبدأ السلام
![]()
ليس كل تعبٍ يُقاس بتحليل، ولا كل ألمٍ تُفسّره صورة أشعة. أحيانًا يشعر الإنسان بإعياءٍ شديد، يطرق أبواب العيادات، ويتنقّل بين الأطباء، وتبقى النتائج مطمئنة، بينما في داخله شيءٌ ينهار بصمت. هنا تبدأ الحقيقة التي يغفل عنها كثيرون: أن بعض الأوجاع لا تنبع من الجسد وحده، بل من عمق النفس.
الطب الحديث لم يعد يفصل بين الجسد والحالة النفسية، بل يؤكد على تكاملهما. فقد عرّفت منظمة الصحة العالمية الصحة بأنها “حالة من اكتمال السلامة البدنية والنفسية والاجتماعية”، وهو تعريف ينسف فكرة الفصل بين الألم الجسدي والضغط النفسي. فالمشاعر المكبوتة، والتوتر المزمن، والحزن المؤجل، كلها أثقال لا تختفي بتجاهلها، بل تبحث عن مخرج، وغالبًا ما يكون الجسد هو أول من يعبّر عنها.
حين يعيش الإنسان صراعًا داخليًا طويل الأمد، تتأثر المنظومة العصبية والمناعية، ويبدأ التعب بالظهور في هيئة إرهاق مزمن، صداع متكرر، آلام عضلية، أو اضطرابات في النوم والهضم، دون سبب عضوي واضح. هنا لا يكون الجسد مريضًا بقدر ما يكون مُرهقًا من حمل ما لم يُقال. وقد عبّر الطبيب والباحث غابور ماتي عن هذه الحقيقة بقوله: “الجسد يقول لا عندما يعجز العقل عن قولها”، في إشارة إلى أن الجسد يتكلم حين تُهمَل الحدود والمشاعر.
وقد لخّص سيغموند فرويد هذا المعنى بقوله: “المشاعر غير المُعبَّر عنها لا تموت، بل تُدفن حيّة وتظهر لاحقًا بطرق أكثر قسوة”. فالكبت لا يُلغي الألم، بل يؤجله، ليعود في صورة أعراض جسدية يصعب تفسيرها طبيًا. ومن هنا نفهم لماذا لا يكفي العلاج الدوائي وحده أحيانًا؛ لأنه يخفف الأعراض دون أن يلامس الجذور النفسية التي صنعت هذا الإرهاق.
التعافي الحقيقي لا يبدأ من مقاومة الألم، بل من فهمه. الفهم يمنحنا القدرة على رؤية ما يحدث داخلنا دون قسوة أو إنكار، والقبول لا يعني الاستسلام، بل الاعتراف بالواقع كما هو، دون صراع داخلي مُنهِك. وبين الفهم الذي يفتح العين، والقبول الذي يفتح القلب، يبدأ السلام.
حين يتحول السؤال من “ما الذي يؤلمني؟” إلى “ما الذي أهملته في داخلي؟”، تتغير الرحلة كاملة. فمعالجة الجسد دون الالتفات إلى النفس تشبه إسكات إنذار الحريق وترك النار مشتعلة. أما الإصغاء الصادق للنفس، ومنحها المساحة لتُفهم وتُحتوى، فيعيد للإنسان توازنه تدريجيًا.
الجسد لا ينهار عبثًا، ولا يتعب دون رسالة. إنه أقرب مرآة لما نعيشه في الداخل. وحين نعتني بأنفسنا كما نعتني بأجسادنا، ونمنح أرواحنا حقها من الفهم والرحمة، لا يهدأ الألم فحسب، بل يولد سلام داخلي حقيقي… سلامٌ لا يأتي من غياب الوجع، بل من فهمه وقبوله ..






