مقالات
تأنَّ قبل الرشق ..فالسهم لا يعود

الكلمة ليست صوتًا عابرًا يخرج ثم يذوب في الهواء، بل طاقة تحمل أثرها معها أينما حلّت. قد تُقال في لحظة غضب، أو تُنطق بلا انتباه، لكنها قد تترك في القلب أثرًا يمتد لسنوات؛ فالكلمات، حين تُطلق، تشبه السهام: لا تعود بعد انطلاقها، ولا يمكن التنبؤ بعمق الأثر الذي تُحدثه …
ولعلّ هذا الإدراك هو ما جعل العرب قديمًا تقول: «رشقني بكلمة»، تعبيرًا عن أن وقع الكلمة قد يكون أشدّ من وقع النِّبال. فهي إمّا بلسمٌ يُضمِّد جراحًا، أو سهمٌ يُنكِئها، ولذلك لا يُستهان بالكلمة؛ إذ هي تارةً تُداوي، وتارةً تُؤذي..
كم من كلمة كسرت خاطرًا كان يحتاج فقط إلى احتواء، وكم من عبارة أطفأت حماسة قلبٍ كان يحاول النهوض. وفي المقابل، كم من كلمة صادقة أعادت إنسانًا إلى نفسه، ومنحت روحًا منهكة سببًا جديدًا للاستمرار. هنا تتجلّى خطورة الكلمة ومسؤوليتها؛ فهي إمّا جرح لا يبرأ،
أو درس لا يُنسى…
وقد عبّر الحكماء عن هذه الحقيقة ببلاغة عميقة، فقيل:
«الكلمة مثل السهم، إمّا تُصيب قلبًا فتداويه، أو تجرح روحًا فلا تُشفى»،
وقيل أيضًا:
«قد تُلقي كلمة كالسهم ولا تُبالي، وتنام، ولا ينام من رُشق السهم بقلبه».
ولهذا شُبّه الكلام بالسهام النافذة؛ منها ما يكون نافعًا صالحًا يُصلح ولا يُؤلم، ومنها ما يكون قبيحًا يترك في النفس أثرًا لا يزول بسهولة…
ولم يكن هذا الوعي بأثر الكلمة وليد هذا العصر، بل أكدته الحكم القديمة، إذ يقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
«لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه»،
في إشارة واضحة إلى أن العاقل يزن كلماته قبل أن ينطق، بينما يترك الأحمق لسانه يقوده دون تفكير في العواقب.
في عالمٍ يزداد صخبًا، تبقى الكلمة الصادقة والرحيمة عملة نادرة، لكنها الأثر الأجمل. فلنتأنَّ قبل أن نرشق سهام كلماتنا، ولنجعلها جسورًا لا جراحًا، ونورًا لا أذى. قد لا نملك تغيير كل شيء من حولنا، لكننا نملك دائمًا اختيار كلماتنا…
واختيار الكلمة الواعية هو أول طريق النضج، وأعمق أشكال الإنسانية ..





